الشراكة النقدية بين مصر والصين تعيد رسم خريطة النظام المالي العالمي
في خطوة تعكس عمق التحولات في العلاقات الاقتصادية بين القاهرة وبكين، وقّع طارق الخولي، نائب محافظ البنك المركزي المصري، وفو وانجون، نائب وزير الإدارة الوطنية الصينية للتنظيم المالي، مذكرة تفاهم للتعاون المشترك في مجالات الرقابة المصرفية، التكنولوجيا المالية، والذكاء الاصطناعي المالي، بما يمثل محورًا جديدًا للشراكة الاستراتيجية بين البلدين في القطاع المالي والمصرفي.
كما إن هذه الخطوة تأتي في لحظة دقيقة من التحول في النظام المالي العالمي، مع تسارع الاتجاه نحو نظام نقدي متعدد الأقطاب، وازدياد الحاجة لبناء جسور تعاون بين الاقتصادات الصاعدة والدول الكبرى.
وأن الاتفاق لا يقتصر على الجوانب الفنية، بل يعكس تحولًا استراتيجيًا في الرؤية النقدية المصرية نحو تنويع الشركاء الماليين وتقليل الاعتماد التاريخي على النظام الغربي، بما يعزز مرونة الاقتصاد المصري ومناعته أمام تقلبات الدولار.
من الرقابة إلى التكامل النقدي: ملامح تعاون شامل
ترتكز المذكرة على ثلاثة محاور رئيسية تمثل نواة تعاون مؤسسي طويل المدى بين الجانبين:
- الرقابة والإشراف المصرفي: تبادل الخبرات في إدارة المخاطر وتطبيق معايير بازل III، مع إدخال تقنيات الرقابة الذكية (Smart Supervision) القائمة على الذكاء الاصطناعي لرصد جودة الأصول والمخاطر الائتمانية في الوقت الفعلي.
- التحول الرقمي والتكنولوجيا المالية: دعم الابتكار في نظم الدفع الإلكتروني وتطوير البنية التحتية الرقمية للبنوك، بما يعزز الكفاءة التشغيلية ويحد من المخاطر النظامية.
- التعاون النقدي والتجاري: بحث آليات التسوية بالعملات المحلية لتيسير التعاملات التجارية الثنائية دون الاعتماد الكامل على الدولار الأمريكي، مما يضع الأساس لتكامل نقدي متعدد العملات بين القاهرة وبكين.
وتأتي هذه المبادرة انسجامًا مع سياسة البنك المركزي المصري لتنويع مصادر النقد الأجنبي وتعزيز اتفاقات المقايضة بالعملات الثنائية (Currency Swap Agreements) مع الاقتصادات الكبرى، في إطار توجه استراتيجي لترسيخ مكانة الجنيه المصري ضمن منظومة نقدية أكثر توازنًا واستقلالًا.
البعد المصرفي: انفتاح استراتيجي يعزز مكانة البنوك المصرية
تمثل المذكرة جسرًا جديدًا يربط الجهاز المصرفي المصري بأحد أكثر الأنظمة المالية تطورًا على مستوى العالم.
ويتيح هذا التعاون للبنوك المصرية فرصًا نوعية، أبرزها:
- التوسع الإقليمي نحو الأسواق الآسيوية عبر مكاتب تمثيل أو قنوات تمويل مشتركة.
- استقطاب تمويلات طويلة الأجل باليوان الصيني أو بعملات إقليمية أخرى لتمويل مشروعات البنية التحتية والطاقة.
- نقل الخبرة الصينية في الرقابة الرقمية الذكية لرفع قدرة البنك المركزي على التنبؤ بالمخاطر الائتمانية والسوقية في الوقت الحقيقي.
ومن المتوقع أن تسهم هذه الخطوة في تحسين كفاءة إدارة المخاطر وجودة الأصول داخل الجهاز المصرفي المصري، بما يعزز صلابته واستقراره في مواجهة الصدمات العالمية وتقلبات السيولة الدولية.
الأثر النقدي: نحو مرونة أكبر في تقييم الجنيه وتنويع سلة الاحتياطيات
يشكل التعاون المصري–الصيني جزءًا من التوجه الدولي نحو فك الارتباط الجزئي بالدولار الأمريكي واعتماد سلال عملات متنوعة في التجارة والاحتياطيات.
ومع تجاوز حجم التبادل التجاري بين القاهرة وبكين 15 مليار دولار سنويًا، فإن تفعيل التسويات المباشرة باليوان أو الجنيه المصري عبر نظام مقاصة ثنائي مباشر سيؤدي إلى:
- تقليل الضغط على الاحتياطيات الدولارية.
- توسيع سلة العملات داخل احتياطيات البنك المركزي المصري.
- إتاحة تقييم أكثر مرونة للجنيه المصري وفق سلة تشمل اليوان واليورو والريال إلى جانب الدولار.
ويمثل ذلك تحولًا جوهريًا نحو سياسة نقدية أكثر استقلالية، تعكس تنوع العلاقات التجارية لمصر مع الشرق والغرب معًا.
تيسير التعاملات التجارية متعددة العملات
تتيح المذكرة آلية جديدة لتسوية المدفوعات التجارية بين الشركات المصرية والصينية باستخدام عملات متعددة، سواء باليوان أو الجنيه أو عملات آسيوية وإقليمية أخرى.
ويُشرف البنكان المركزيان على هذه المنظومة عبر نظام مقاصة مباشر يضمن:
- خفض تكلفة التحويلات والعمولات الدولية.
- تسريع دورة التجارة الخارجية بين البلدين.
- دعم استقرار ميزان المدفوعات المصري وتنويع التدفقات النقدية.
هذه الآلية تتكامل مع جهود توطين سلاسل الإمداد الصناعية وتوسيع الشراكات التجارية مع الشرق الآسيوي، مما يسهم في تعزيز استقرار سوق النقد الأجنبي المصري وتخفيف الضغط عن الدولار الأمريكي.
رسائل استراتيجية تتجاوز الحدث
يتجاوز هذا الاتفاق الإطار الفني ليعكس رؤية مصرية متكاملة لبناء نظام مالي متنوع وذكي. فالتعاون مع الصين — ثاني أكبر اقتصاد في العالم — يفتح الباب أمام نقل الخبرات في مجالات التنظيم المالي والرقابة الرقمية، ويمنح مصر موقعًا أكثر توازنًا داخل المنظومة المالية العالمية.
كما أن إدماج الذكاء الاصطناعي في عمليات الإشراف المصرفي يمثل قفزة نوعية نحو رقابة استباقية قادرة على التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها، مما يعزز مرونة القطاع المصرفي المصري ويعكس استعداد الدولة لمواكبة التحولات التكنولوجية في عالم المال.
وتأتي هذه الخطوة في وقتٍ تشهد فيه مصر تحسنًا ملحوظًا في مؤشرات الأداء الاقتصادي ورفعًا لتصنيفها الائتماني للمرة الأولى منذ سبع سنوات، ما يعزز ثقة المؤسسات الدولية في الاقتصاد المصري ويؤكد موقعه كمركز مالي إقليمي صاعد.
الخاتمة: نحو نظام مالي ذكي ومتعدد الأقطاب
لم يكن توقيع مذكرة التفاهم بين البنك المركزي المصري والإدارة الوطنية الصينية للتنظيم المالي مجرد إجراء بروتوكولي، بل تحرك استراتيجي لإعادة تموضع مصر في خريطة النظام المالي العالمي.
فمن الرقابة الذكية إلى التنويع النقدي، ومن التحول الرقمي إلى تعدد العملات، تضع القاهرة وبكين ملامح مرحلة جديدة من التعاون المالي العابر للقارات.
وفي وقت يتغير فيه شكل المال عالميًا، تمضي مصر بثبات نحو بناء نظام مصرفي ذكي، متعدد العملات، متصل بالعالم من موقع قوة واستقلال — يؤسس لمستقبل نقدي أكثر توازنًا واستقرارًا في الشرق الأوسط وأفريقيا.





